فصل: قال الخازن:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



الثاني أن الشاهد قَدُّ القميص؛ رواه ابن أبي نَجيح عن مجاهد، وهو مجاز صحيح من جهة اللغة؛ فإن لسان الحال أبلغ من لسان المقال؛ وقد تضيف العرب الكلام إلى الجمادات وتخبر عنها بما هي عليه من الصفات، وذلك كثير في أشعارها وكلامها؛ ومن أحلاه قول بعضهم: قال الحائط للوتد لِمَ تَشقُّني؟ قال له: سَلْ من يَدقُّني.
إلا أن قول الله تعالى بعد: {مِنْ أَهْلِهَا} يبطل أن يكون القميص.
الثالث أنه خَلْق من خلق الله تعالى ليس بإنسي ولا بجنّيّ؛ قاله مجاهد أيضًا، وهذا يرده قوله تعالى: {مِنْ أَهْلِهَا}.
الرابع أنه رجل حكيم ذو عقل كان الوزير يستشيره في أموره، وكان من جملة أهل المرأة، وكان مع زوجها فقال: قد سمعت الاستدبار والجَلَبة من وراء الباب، وشق القميص، فلا يدرى أيكما كان قدّام صاحبه؛ فإن كان شقّ القميص من قدّامه فأنتِ صادقة، وإن كان من خلفه فهو صادق؛ فنظروا إلى القميص فإذا هو مشقوق من خلف؛ هذا قول الحسن وعِكرمة وقتادة والضّحاك ومجاهد أيضًا والسدّي.
قال السدّي: كان ابن عمها؛ وروي عن ابن عباس، وهو الصحيح في الباب، والله أعلم.
وروي عن ابن عباس رواه (عنه) إسرائيل عن سِماك عن عِكرمة قال: كان رجلًا ذا لحية.
وقال سفيان عن جابر عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس أنه قال: كان من خاصة الملك.
وقال عكرمة: لم يكن بصبيّ، ولكن كان رجلًا حكيمًا.
وروى سفيان عن منصور عن مجاهد قال: كان رجلًا.
قال أبو جعفر النحاس: والأشبه بالمعنى والله أعلم أن يكون رجلًا عاقلًا حكيمًا شاوره الملك فجاء بهذه الدلالة؛ ولو كان طفلًا لكانت شهادته ليوسف صلى الله عليه وسلم تغني عن أن يأتي بدليل من العادة؛ لأن كلام الطفل آية معجزة، فكانت أوضح من الاستدلال بالعادة؛ وليس هذا بمخالف للحديث: «تكلم أربعة وهم صغار» منهم صاحب يوسف؛ يكون المعنى: صغيرًا ليس بشيخ؛ وفي هذا دليل آخر وهو: أن ابن عباس رضي الله عنهما روى الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تواترت الرواية عنه أن صاحب يوسف ليس بصبيّ.
قلت: قد رُوي عن ابن عباس وأبي هريرة وابن جُبير وهلال بن يِسَاف والضّحاك أنه كان صبيًا في المهد؛ إلا أنه لو كان صبيًا تكلم لكان الدليل نفس كلامه، دون أن يحتاج إلى استدلال بالقميص، وكان يكون ذلك خرق عادة، ونوع معجزة؛ والله أعلم.
وسيأتي من تكلم في المهد من الصبيان في سورة البروج إن شاء الله.
الثالثة: إذا تنزلنا على أن يكون الشاهد طفلًا صغيرًا فلا يكون فيه دلالة على العمل بالأمارات كما ذكرنا؛ وإذا كان رجلًا فيصح أن يكون حجة بالحكم بالعلامة في اللقطة وكثير من المواضع؛ حتى قال مالك في اللصوص: إذا وجدت معهم أمتعة فجاء قوم فادعوها، وليست لهم بيّنة فإن السلطان يَتَلَوَّم لهم في ذلك؛ فإن لم يأت غيرهم دفعها إليهم.
وقال محمد في متاع البيت إذا اختلفت فيه المرأة والرجل: إن ما كان للرجال فهو للرجل، وما كان للنساء فهو للمرأة، وما كان للرجل والمرأة فهو للرجل.
وكان شُرَيح وإياس بن معاوية يعملان على العلامات في الحكومات؛ وأصل ذلك هذه الآية، والله أعلم.
قوله تعالى: {إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ} كان في موضع جزم بالشرط، وفيه من النحو ما يشكل، لأن حروف الشرط تردّ الماضي إلى المستقبل، وليس هذا في كان؛ فقال المبرد محمد بن يزيد: هذا لقوّة كان، وأنه يعبر بها عن جميع الأفعال.
وقال الزجاج: المعنى إن يكن؛ أي إن يُعلَم، والعلم لم يقع، وكذا الكون لأنه يؤدي عن العلم.
{قُدَّ مِنْ قُبُلٍ} فخبّر عن: {كان} بالفعل الماضي؛ كما قال زهير:
وكان طَوَى كَشْحًا على مُسْتَكِنَّةٍ ** فلا هو أبداهَا ولم يَتقدَّمِ

وقرأ يحيى بن يعمر وابن أبي إسحق: {مِن قُبُلُ} بضم القاف والباء واللام، وكذا: {دُبُرُ} قال الزجاج: يجعلهما غايتين كقبلُ وبعدُ؛ كأنه قال: من قُبُلِه ومن دُبُرِه، فلما حذف المضاف إليه وهو مراد صار المضاف غاية نفسه بعد أن كان المضاف إليه غاية له.
ويجوز: {من قُبُلَ}، و{من دُبُرَ} بفتح الراء واللام تشبيهًا بما لا ينصرف؛ لأنه معرفة ومزال عن بابه.
وروى محبوب عن أبي عمرو: {من قُبْلٍ}، و{من دُبْرٍ} مخفّفان مجروران.
قوله تعالى: {فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ} قيل: قال لها ذلك العزيز عند قولها: {مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا}. وقيل: قاله لها الشاهد. والكيد: المكر والحيلة، وقد تقدّم في الأنفال.
{إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} وإنما قال: {عَظِيمٌ} لعظم فتنتهنّ واحتيالهن في التخلّص من ورطتهنّ.
وقال مقاتل عن يحيى بن أبي كثير عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن كيد النساء أعظم من كيد الشيطان لأن الله تعالى يقول: {إِنَّ كَيْدَ الشيطان كَانَ ضَعِيفًا} [النساء: 76] وقال: {إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ}».
قوله تعالى: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا} القائل هذا هو الشاهد. و: {يوسف} نداء مفرد، أي يا يوسف، فحذف.
{أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} أي لا تذكره لأحد واكتمه.
ثم أقبل عليها فقال: وأنتِ: {واستغفري لِذَنبِكِ} يقول: استغفري زوجك من ذنبك لا يعاقبك.
{إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الخاطئين} ولم يقل من الخاطئات لأنه قصد الإخبار عن المذكر والمؤنث، فغلّب المذكر؛ والمعنى: من الناس الخاطئين، أو من القوم الخاطئين؛ مثل: {إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ} [النمل: 43]: {وَكَانَتْ مِنَ القانتين} [التحريم: 12].
وقيل: إن القائل ليوسف اعرض ولها استغفري زوجُها الملك؛ وفيه قولان: أحدهما: أنه لم يكن غيورًا؛ فلذلك كان ساكنًا.
وعدم الغيرة في كثير من أهل مصر موجود.
الثاني: أن الله تعالى سلبه الغيرة وكان فيه لطف بيوسف حتى كُفي بادرته وعفا عنها. اهـ.

.قال الخازن:

{قال} يعني يوسف: {هي راودتني عن نفسي} يعني طلبت مني الفحشاء فأبيت وفررت وذلك أن يوسف ما كان يريد أن يذكر هذا القول ولا يهتك سترها ولكن لما قالت هي ما قالت ولطخت عرضه احتاج إلى إزالة هذه التهمة عن نفسه فقال هي راودتني عن نفسي: {وشهد شاهد من أهلها} يعني وحكم حاكم من أهل المرأة واختلفوا في ذلك الشاهد، فقال سعيد بن جبير والضحاك: كان صبيًا في المهد فأنطقه الله وهو رواية عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تكلم أربعة وهم صغار ابن ماشطة ابنة فرعون وشاهد يوسف وصاحب جريج وعيسى ابن مريم» ذكره البغوي بغير سند والذي جاء في الصحيحين «ثلاثة عيسى بن مريم وصاحب جريج وابن المرأة» وقصتهم مخرجة في الصحيح قيل كان هذا الصبي شاهد يوسف ابن خال المرأة.
وقال الحسن وعكرمة وقتادة ومجاهد: لم يكن صبيًا ولكنه كان رجلًا حكيمًا ذا رأي، وقال السدي: هو ابن عم امرأة فحكم فقال: {إن كان قميصه قد من قبل} أي من قدام: {فصدقت وهو من الكاذبين}.
{وإن كان قميصه قد من دبر} أي من خلف: {فكذبت وهو من الصادقين} وإنما كان هذا الشاهد من أهل المرأة ليكون أقوى من نفي التهمة عن يوسف ونفي التهمة عنه من وجوه منها أنه كان في الظاهر مملوك هذه المرأة والمملوك لا يبسط يديه إلى سيدته ومنها أنهم شاهدوا يوسف يعدو هاربًا منها والطالب لا يهرب ومنها أنهم رأوا المرأة قد تزينت بأكمل الوجوه فكان إلحاق التهمة بها أولى ومنها أنهم عرفوا يوسف في المدة الطويلة فلم يروا عليه حالة تناسب إقدامه على مثل هذه الحالة فكان مجموع هذه العلامات دلالة على صدقه مع شهادة الشاهد له بصدقه أيضًا: {فلما رأى قميصه قد من دبر} يعني فلما رأى قطفير زوج المرأة قميص يوسف قد من خلفه عرف خيانة امرأته وبراءة يوسف: {قال} يعني قال لها زوجها قطفير: {إنه} يعني هذا الصنيع: {من كيدكن} يعني من حيلكن ومكركن: {إن كيدكن عظيم} فإن قلت كيف وصف كيد النساء بالعظيم مع قوله تعالى: {وخلق الإنسان ضعيفًا} وهلا كان مكر الرجال أعظم من مكر النساء.
قلت أما كون الإنسان خلق ضعيفًا فهو بانسبة إلى خلق ما هو أعظم منه كخلق الملائكة والسموات والأرض والجبال ونحو ذلك وأما عظم كيد النساء ومكرهن في هذا الباب فهو أعظم من كيد جميع البشر لأن لهن من المكر والحيل والكيد في إتمام مرادهن ما لا يقدر عليه الرجال في هذا الباب، وقيل: إن قوله إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم من قول الشاهد وذلك أنه لما ثبت عنده خيانة المرأة وبراءة يوسف قال هذه المقالة: {يوسف} يعني يا يوسف: {أعرض عن هذا} يعني اترك هذا الحديث فلا تذكره لأحد حتى لا يفشو ويشيع وينتشر بين الناس وقيل معناه يا يوسف لا تكترث بهذا الأمر ولا تهتم به فقد بان عذرك وبراءتك ثم التفت إلى المرأة فقال لها: {واستغفري لذنبك} يعني توبي إلى الله مما رميت يوسف به من الخطيئة وهو بريء منها وقيل إن هذا من قول الشاهد يقول للمرأة سلي زوجك أن يصفح عنك ولا يعاقبك بسبب ذنبك: {إنك كنت من الخاطئين} يعني من المذنبين حين خنت زوجك ورميت يوسف بالتهمة وهو بريء وإنما قال من الخاطئين ولم يقل من الخاطئات تغليبًا لجنس الرجال على النساء وقيل إنه لم يقصد به الخبر عن النساء بل قصد الخبر عن كل ما يفعل هذا الفعل تقديره إنك كنت من القوم الخاطئين فهو كقوله وكانت من القانتين. اهـ.

.قال أبو السعود:

{قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي}
{قَالَ} استئنافٌ وجوابٌ عما يقال: فماذا قال يوسفُ حينئذ؟ فقيل: قال: {هِىَ رَاوَدَتْنِى عَن نَّفْسِى} أي طالبتني للمواتاة لا أني أردتُ بها سوءًا كما قالت وإنما قاله عليه السلام لتنزيه نفسِه عما أُسند إليه من الخيانة وعدم معرفة حقِّ السيد ودفعِ ما عرضَتْه له من الأمرين، وفي التعبير عنها بضمير الغَيبة دون الخطاب أو اسم الإشارةِ مراعاةٌ لحسن الأدبِ مع الإيماء إلى الإعراض عنها: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مّنْ أَهْلِهَا} قيل: هو ابنُ عمها، وقيل: هو الذي كان جالسًا مع زوجها لدى الباب، وقيل: كان حكيمًا يرجِعُ إليه الملكُ ويستشيره، وقد جُوّز أن يكون بعضُ أهلها قد بصُر بها من حيث لا تشعُر فأغضبه الله تعالى ليوسف عليه السلام بالشهادة له والقيامِ بالحق، وإنما ألقى الله سبحانه الشهادةَ إلى من هو من أهلها ليكون أدلَّ على نزاهته عليه السلام وأنفى للتُّهمة، وقيل: كان الشاهدُ ابنَ خالٍ لها صبيًا في المهد أنطقه الله تعالى ببراءته وهو الأظهر، فإنه رُوي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تكلم أربعةٌ وهم صغار، ابنُ ماشطةَ بنتِ فرعون، وشاهدُ يوسف، وصاحبُ جريج، وعيسى عليه السلام» رواه الحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه وقال: صحيح على شرط الشيخين، وذكر كونَه من أهلها لبيان الواقع إذ لا يختلف الحالُ في هذه الصورة بين كون الشاهدِ من أهلها أو من غيرهم.
{إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ} أي إن عُلم أنه قدّ من قبُلُ، ونظيره إن أحسنتَ إلى فقد أحسنتُ إليك فيما قبلُ، فإن معناه: إن تعتدَّ بإحسانك إلي فأعتدُّ بإحساني السابقِ إليك: {فَصَدَقَتْ} بتقدير قد، لأنها تقرب الماضي إلى الحال أي فقد صدقت، وكذا الحال في قوله: {فَكَذَّبْتَ} وهي وإن لم تصرِّح بأنه عليه السلام أراد بها سوءًا إلا أن كلامَها حيث كان واضحَ الدِلالة عليه، أُسند إليها الصدقُ والكذب بذلك الاعتبار، فإنها كما يعرِضان الكلامَ باعتبار منطوقِه يعرضان له باعتبار ما يستلزمه، وبذلك الاعتبار يعرضان للإنشاءات: {وَهُوَ مِنَ الكاذبين} وهذه الشرطية حيث لا ملازمةَ عقليةً ولا عاديةً بين مقدِّمها وتاليها ليست من الشهادة في شيء وإنما ذُكرت توسيعًا للدائرة وإرخاءً للعِنان إلى جانب المرأة بإجراء ما عسى يحتمله الحالُ في الجملة بأن يقع القدُّ من قُبُل بمدافعتها له عليه السلام عن نفسها عند إرادتِه المخالطةَ والتكشفَ مُجرى الظاهرِ الغالبِ الوقوعِ تقريبًا لما هو المقصودُ بإقامة الشهادة، أعني مضمونَ الشرطية الثانية التي هي قوله عز وجل: {وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصادقين}
إلى التسليم والقَبول عند السامع لكونه أقربَ إلى الوقوع وأدلَّ على المطلوب وإن لم يكن بين طرفيها أيضًا ملازمةٌ، وحكايةُ الشرطيةِ بعد فعل الشهادةِ لكونها من قبيل الأقوال أو بتقدير القول. أي شهد قائلًا الخ وتسميتُها شهادةً مع أنه لا حكمَ فيها بالفعل بالصدق والكذب لتأديتها مؤداها، بل لأنها شهادةٌ على الحقيقة، وحُكمٌ بصدقه وكذبها أما على تقدير كونِ الشاهدِ هو الصبيُّ فظاهرٌ إذ هو إخبارٌ بهما من قِبَل علامِ الغيوب، والتصويرُ بصورة الشرطية للإيذان بأن ذلك ظاهرٌ من العلائم أيضًا وأما على تقدير كونِه غيرَه فلأن الظاهرَ أن صورةَ الحالِ معلومةٌ له على ما هي عليه إما مشاهدةً أو إخبارًا فهو متيقّنٌ بعدم مقدَّم الشرطيةِ الأولى، وبوجود مقدمِ الشرطيةِ الثانية ومن ضرورته الجزمُ بانتفاء تالي الأولى وبوقوع تالي الثانية، فإذن هو إخبارٌ بكذبها وصدقِه عليه السلام ولكنه ساق شهادتَه مساقًا مأمونًا من الجَرْح والطعن حيث صورها بصورة الشرطية المترددةِ ظاهرًا بين نفعها ونفعِه، وأما حقيقةً فلا تردد فيها قطعًا. لأن الشرطية الأولى تعليقٌ لصدقها بما يستحيل وجودُه من قدّ القميص من قُبُل فيكون مُحالًا لا محالة، ومن ضرورته تقررُ كذبها، والثانية تعليقٌ لصدقه عليه السلام بأمر محققِ الوجود وهو القدُّ من دبر فيكون محققًا ألبتةَ، وهذا كما قيل فيمن قال لامرأة: زوجيني نفسك، فقالت: لي زوجٌ فكذبها في ذلك فقالت: إن لم يكن لي زوجٌ فقد زوجتُك نفسي، فقبل الرجلُ فإذا لا زوج لها فهو نكاحٌ، إذ تعليقُ الشيء بأمر مقرَّرٍ تنجيزٌ له. وقرئ {منْ قُبلُ} و{من دُبرُ} بالضم لأنهما قطعا عن الإضافة كقبلُ وبعدُ وبالفتح كأنهما جعلا علمين للجهتين فمنعا الصرفَ للتأنيث والعلمية وقرئ بسكون العين.
{فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ} كأنه لم يكن رأى ذلك بعدُ أو لم يتدبَّرْه فلما تنبه له وعلم حقيقةَ الحال: {قَالَ إِنَّهُ} أي الأمرَ الذي وقع فيه التشاجرُ وهو عبارةٌ عن إرادة السوءِ التي أُسندت إلى يوسف وتدبيرِ عقوبته بقولها: ما جزاءُ من أراد بأهلك سوءًا إلى آخره لكن لا من حيث صدورُ تلك الإرادةِ والإسنادُ عنها بل مع قطع النظرِ عن ذلك لئلا يخلُوَ قوله تعالى: {مِن كَيْدِكُنَّ} أي من جنس حيلتِكن ومكرِكن أيتها النساءُ لا من غيركن عن الإفادة وتدبيرِ العقوبة وإن لم يمكن تجريدُه عن الإضافة إليها إلا أنها لما صوّرته بصورة الحق أفاد الحكمَ بكونه من كيدهن إفادةً ظاهرةً فتأمل. وتعميمُ الخطاب للتنبيه على أن ذلك خُلُق لهن عريق:
ولا تحسَبا هندًا لها الغدرُ وحدها ** سجيةُ نفسٍ، كلُّ غانيةٍ هندُ

ورجْعُ الضميرِ إلى قولها: ما جزاءُ من أراد بأهلك سوءًا فقط عدولٌ عن البحث عن أصل ما وقع فيه النزاعُ من أن إرادةَ السوءِ ممن هي إلى البحث عن شُعبة من شُعَبه، وجعلُه للسوء أو للأمر المعبّر به عن طمعها في يوسف عليه السلام يأباه الخبرُ فإن الكيدَ يستدعي أن يعتبر مع ذلك هَناتٌ أُخرُ من قِبلها كما أشرنا إليه: {إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} فإنه ألطفُ وأعلقُ بالقلب وأشدُّ تأثيرًا في النفس. وعن بعض العلماء إني أخاف من النساء ما لا أخاف من الشيطان فإنه تعالى يقول: {إِنَّ كَيْدَ الشيطان كَانَ ضَعِيفًا} وقال للنساء: {إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} ولأن الشيطان يوسوس مُسارقةً وهن يواجِهْن به الرجال.
{يُوسُفَ}
حُذف منه حرفُ النداء لقربه وكمالِ تفطُّنه للحديث وفيه تقريبٌ له وتلطيفٌ لمحله: {أَعْرِضْ عَنْ هذا} أي عن هذا الأمرِ وعن التحديث به واكتُمْه فقد ظهر صدقُك ونزاهتُك: {واستغفرى} أنت يا هذه: {لِذَنبِكِ} الذي صدر عنك وثبَتَ عليك: {إِنَّكَ كُنتَ} بسبب ذلك: {مِنَ الخاطئين} من جملة القوم المتعمّدين للذنب أو من جنسهم، يقال: خطِئ إذا أذنب عمدًا، وهو تعليلٌ للأمر بالاستغفار، والتذكيرُ لتغليب الذكورِ على الإناث وكان العزيزُ رجلًا حليمًا فاكتفى بهذا القدرِ من مؤاخذتها، وقيل: كان قليلَ الغَيرة. اهـ.